“سترات الصفراء” بعد خطاب الرئيس ماكرون

“سترات الصفراء” بعد خطاب الرئيس ماكرون
لم تُرضِ تنازلات الرئيس الفرنسي بإلغاء زيادة الضريبة على أسعار المحروقات متظاهري السترات الصفراء. وفي محاولة لامتصاص غضب الشارع، ظهر ماكرون مساء الإثنين 10 ديسمبر 2018 على شاشة التلفزيون، متفهِّمًا غضب المتظاهرين ومطالبهم الشرعية، ومعترفًا بأنه أخطأ في حقهم بشأن عدم تقديم حلول سريعة منذ انتخابه، لكنه في الوقت نفسه توعد بكل حزم أعمال العنف التي أربكت البلاد.
بدا خطاب الرئيس ماكرون كأنه يتخذ خطوات ملموسة عن طريق زيادة الحد الأدني للأجور بمبلغ 100 يورو، والإعفاء الضريبي لأجور ساعات العمل الإضافية، وإلغاء ضريبة ستُفرض على المعاشات التقاعدية التي تقل عن 2000 يورو شهريًّا. خاطب ماكرون أصحاب العمل القادرين لمنح الموظفين مكافأة نهاية العام، التي ستكون أيضًا معفاة من الضرائب.
أنهى الرئيس الفرنسي خطابه مؤكدًا مبدأ الحوار والاحترام والمشاركة من أجل الفوز في المعركة المشتركة للفرنسيين، وهي فرنسا.
رأى بعض المتظاهرين الإجراءات متأخرة ومنتهية الصلاحية، وموضوعة في إطار التنازلات الفاشلة، وأن ثورة المواطن مستمرة حتى يتحقق توزيع عادل للثروة، وفقًا للسياسي الفرنسي .
من المؤكد أن مشهد خطاب ماكرون لن يكون آخر المشاهد التي تنتهي عندها الاحتجاجات في فرنسا، التي خرجت تئن من زيادة أسعار المحروقات. وبجوار الأزمة الداخلية في فرنسا، أصبحت الاحتجاجات كذلك مسارًا للجدل واتهامات دولية متبادلة بين عدد من زعماء دول العالم، إذ حاول كلٌّ منهم تفسيرها واستغلالها لتأييد وجهة نظره، بمن فيهم الرئيس الفرنسي نفسه.
بعيدًا عن السبب الذي أعلنه المتظاهرون، وهو زيادة الضرائب على أسعار المحروقات، فتحت حكومة الرئيس الفرنسي تحقيقًا حول إمكانية وجود روسيا وراء احتجاجات السترات الصفراء التي اجتاحت كل أنحاء فرنسا، بناء على تقارير بأن حسابات تواصل اجتماعي مرتبطة بموسكو استهدفت تأجيج المظاهرات في فرنسا.
وفقًا لمجموعة التحالف من أجل ضمان الديمقراطية، التي تهدف لمواجهة الجهود الروسية المبذولة لتقويض المؤسسات الديمقراطية في أمريكا وأوروبا، فإن نحو 600 حساب معروف بتعزيز وجهات نظر الكرملين على تويتر زادوا من وتيرة استخدام وسم Giletsjaunes# الخاص بحركة السترات الصفراء، تركيزًا على الأحداث في فرنسا، وسعيًا لتضخيم الاحتجاجات.
بناء على ذلك، أعلن وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، أن حكومته تبحث احتمال تدخل روسيا في تأجيج مظاهرات السترات الصفراء، خصوصًا أن تقارير روسية مشكوكًا في مصداقيتها تحدثت عن تمرد في صفوف أفراد الشرطة وانضمام بعضهم إلى الاحتجاجات.
لم يكن اتهام الحكومة الروسية بالتدخل في الشؤون الداخلية لفرنسا جديدًا. ففي عام 2017، اتهم ماكرون روسيا باستهداف حملته الانتخابية للرئاسة بأخبار مزيفة نالت من سمعته الشخصية، وبهجمات إلكترونية ضد حزبه «الجمهورية إلى الأمام». و لم يكن رد الحكومة الروسية بالإنكار جديدًا كذلك، ثم تأكيد حرص روسيا على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد.
بدخول احتجاجات فرنسا أسبوعها الرابع على التوالي، لم تكن روسيا وحدها على الساحة العالمية تنظر إلى الأوضاع المتفاقمة، التي أضحت مرتعًا لوجهات نظر الدول الأخرى
على الرغم من اتهامه بانتهاك حقوق الإنسان وتآكل سيادة القانون في بلاده، استنكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما رآه “عنفًا غير متكافئ ” للسلطات الفرنسية تجاه المتظاهرين، مؤكدًا أنه يتابع الوضع في قلق، وأن فرنسا فشلت في اختبار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، رغم أنها تنتقد ما تمارسة الشرطة التركية طوال الوقت.
إذا كانت تركيا رأت في مشاهد عنف الشرطة الفرنسية ضد المتظاهرين دليلًا على ما رأته فشل الديمقراطية الأوروبية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية اتخذتها دليلًا على ما رأته فشل اتفاقية باريس للمناخ.
يؤمن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الشعب الفرنسي خرج إلى الشارع لأنه لأمواله التي يدفعها أن تذهب إلى دول العالم الثالث بهدف احتمالية حماية البيئة، ويؤمن كذلك بأن المحتجين الفرنسيين يرددون اسمه خلال التظاهرات. يعبر ترامب عن حزنه لما يحدث من عنف في باريس، ويقترح إنهاء اتفاقية باريس للمناخ “السخيفة والمكلفة”، لإعادة أموال الشعب الفرنسي عن طريق فرض ضرائب أقل.
ردًّا على تصريحات الرئيس الأمريكي، أدان وزير الخارجية الفرنسي تدخله في الشؤون الداخلية للبلاد، ونفى كذلك ادعاءاته بشأن الهتافات التي تنادي اسمه.
استجابة الرئيس الفرنسي بعد 4 أسابيع من اندلاع التظاهرات قد تكون متأخرة جدًّا، بعدما صعَّد المتظاهرون مطالبهم بالفعل.
هكذا، اتُّخذت مظاهرات حركة السترات الصفراء في فرنسا ذريعة لإثبات فشل ما يجري في الداخل الفرنسي، بالرغم من انتشار عدوى تظاهرات السترات الصفراء في بلجيكا وهولندا اللتين يختلف وضعهما، فلم تُفرض على مواطني البلدين أي زيادة في أسعار المحروقات.
لم يشجب الرئيس التركي أردوغان اعتقال 100 من 400 مواطن في العاصمة البلجيكية بروكسل، واستخدام الشرطة البلجيكية رذاذ الفلفل ضد المتظاهرين، ووقوع اشتباكات عنيفة بين المحتجين والشرطة، حين جرت محاولة اختراق الحاجز الأمني الذي يحول دون الوصول إلى البرلمان الأوروبي.
لم ينجح الرئيس الأمريكي في تخمين أسباب المظاهرة، وما إذا كانت نتيجة فشل اتفاقية باريس للمناخ كذلك
ففي يوم السبت من الأسبوع الرابع على التوالي للمظاهرات، التي بدأت 17 نوفمبر، بات مشهد قنابل الغاز المسيل للدموع ممزوجةً بأصوات الهتافات العالية متوقَّعًا ومألوفًا. وتحول الغضب من زيادة أسعار المحروقات إلى غضب من شخص الرئيس ماكرون، وطالب المحتجون بإقالته على الفور.
كانت قوات الشرطة على شفا فقدان السيطرة على الأوضاع الأمنية، فعمدت إلى توقيف كل المواطنين وتفتيشهم.
مع نشر الحكومة الفرنسية نحو 89 ألفًا من قوات الشرطة في جميع أنحاء البلاد، زادت وتيرة العنف خلال المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين، وحرق السيارات المنتشرة في الشوارع، وتكسير واجهات المحلات التجارية، ليشهد ذلك اليوم فقط اعتقال 670 فرنسيًّا، من مجموع 1380 معتقلًا منذ بداية الاحتجاجات.
اضطرت السلطات إلى إغلاق الطريق المؤدية إلى قوس النصر، تفاديًا لما حدث في الأسابيع الماضية من تكسير أجزاء منه، ومنع الدخول إلى برج إيفل. في المقابل، ظهرت لأول مرة منذ اندلاع الاحتجاجات المدرعات التي استخدمتها قوات الشرطة لإزالة حواجز وضعها المحتجون في طريقهم.
لم تكن باريس الوجهة الوحيدة التي ارتادها المتظاهرون، فقد تحولت مدينة غرونوبل جنوب شرقي البلاد، ومدينة سانت إتيان في الهضبة الوسطى، ومدينة مارسيليا على الساحل الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط، إلى ما يشبه ساحة مواجهات لحرب عصابات بين الشرطة والمحتجين.
كانت قوات الشرطة على شفا فقدان السيطرة على الأوضاع الأمنية، فعمدت إلى توقيف كل المواطنين وتفتيشهم، سواء ارتدوا سترات صفراء أو لم يفعلوا، ومصادرة أقنعة الوجه التي تُستخدم ضد الغاز المسيل للدموع والخوذ والمطارق، وكل ما يمكن استخدامه كقذائف.
رغم أن خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون احتوى كثيرًا من التنازلات التي من شأنها تخفيف حدة المظاهرات، فإن عددًا من ردود أفعال المعارضين، واستمرار دعوات التظاهر السبت 15 ديسمبر 2018، تجعل جميع الأطراف في انتظار ما سيحدث: هل تستمر المظاهرات، ما يعني تصعيدًا سيكون ماكرون نفسه هدفًا صريحًا له، أم تبدأ في الخفوت تدريجيًّا؟